فصل: تفسير الآية رقم (64):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (54- 55):

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)}
{و} اذكر {لُوطاً} أو أرسلنا لوطاً لدلالة (ولقد أرسلنا) عليه. و{إِذْ} بدل على الأول ظرف على الثاني. {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} من بصر القلب، أي: تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا إليها، وأن الله إنما خلق الأنثى للذكر ولم يخلق الذكر للذكر، ولا الأنثى للأنثى، فهي مضادّة لله في حكمته وحكمه، وعلمكم بذلك أعظم لذنوبكم وأدخل في القبح والسماجة. وفيه دليل على أن القبيح من الله أقبح منه من عبادة؛ لأنه أعلم العالمين وأحكم الحاكمين. أو تبصرونها بعضكم من بعض، لأنهم كانوا في ناديهم يرتكبونها معالنين بها، لا يتستر بعضهم من بعض خلاعة ومجانة، وإنهماكاً في المعصية، وكأن أبا نواس بني على مذهبهم قوله:
وَبُحْ بِاسْمِ مَا تَأْتِي وَذَرْنِي مِنَ الْكُنَى ** فَلاَ خَيْرَ فِي اللَّذَّاتِ مِنْ دُونِهَا سِتْرُ

أو تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم.
فإن قلت: فسرت تبصرون بالعلم وبعده {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} فكيف يكونون علماء وجهلاء؟ قلت: أراد: تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك. أو تجهلون العاقبة. أو أراد بالجهل. السفاهة والمجانة التي كانوا عليها فإن قلت: {تَجْهَلُونَ} صفة لقوم، والموصوف لفظه لفظ الغائب، فهلا طابقت الصفة الموصوف فقرئ بالياء دون التاء؟ وكذلك بل أنتم قوم تفتنون؟ قلت: اجتمعت الغيبة والمخاطبة، فغلبت المخاطبة، لأنها أقوى وأرسخ أصلاً من الغيبة.

.تفسير الآيات (56- 58):

{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)}
وقرأ الأعمش: {جوابُ قومه}، بالرفع. والمشهورة أحسن {يَتَطَهَّرُونَ} يتنزهون عن القاذورات كلها، فينكرون هذا العمل القذر، ويغيظنا إنكارهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هو استهزاء {قدرناها} قدّرنا كونها {مِنَ الغابرين} كقوله: {قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين} [الحجر: 60] فالتقدير واقع على الغبور في المعنى.

.تفسير الآية رقم (59):

{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)}
أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفيه تعليم حسن، وتوقيف على أدب جميل، وبعث على التيمن بالذكرين، والتبرك بهما، والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين وإصغائهم إليه، وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المسمع. ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابراً عن كابر هذا الأدب، فحمدوا الله عزّ وجل وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام كل علم مفاد وقبل كل عظة وتذكرة، وفي مفتتح كل خطبة، وتبعهم المترسلون فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن. وقيل: هو متصل بما قبله، وأمر بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم والصلاة على الأنبياء عليهم السلام وأشياعهم الناجين. وقيل: هو خطاب للوط عليه السلام، وأن يحمد الله على هلاك كفار قومه، ويسلم على من اصطفاه الله ونجاه من هلكتهم وعصمه من ذنوبهم {آلله خيرٌ أما يشركون} معلوم أن لا خير فيما أشركوه أصلاً حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه، وإنما هو إلزام لهم وتبكيت وتهكم بحالهم، وذلك أنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله، ولا يؤثر عاقل شيئاً على شيء إلا لداع يدعوه إلى إيثاره من زيادة خير ومنفعة، فقيل لهم، مع العلم بأنه لا خير فيما آثروه، وأنهم لم يؤثروه لزيادة الخير ولكن هوى وعبثاً، لينبهوا على الخطأ المفرط والجهل المورط وإضلالهم التمييز ونبذهم المعقول وليعلموا أنّ الإيثار يجب أن يكون للخير الزائد. ونحوه ما حكاه عن فرعون {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هذا الذى هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف: 52] مع علمه أنه ليس لموسى مثل أنهاره التي كانت تجري تحته. ثم عدّد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، كما عدّدها في موضع آخر ثم قال: هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء. وقرئ: {يشركون} بالياء والتاء.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا قرأها يقول: «بل الله خير وأبقى وأجل أكرم».

.تفسير الآية رقم (60):

{أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)}
فإن قلت: ما الفرق بين أم وأم في {أَمْ مَا تُشْرِكُونَ} و{أَمَّنْ خَلَقَ السماوات}؟ قلت: تلك متصلة؛ لأنّ المعنى: أيهما خير. وهذه منقطعة بمعنى بل والهمزة، لما قال تعالى: آلله خير أم الآلهة؟ قال: بل أمّن خلق السموات والأرض خير؟ تقريراً لهم بأن من قدر على خلق العالم خير من جماد لا يقدر على شيء.
وقرأ الأعمش: أمَن، بالتخفيف. ووجهه أن يجعل بدلاً من الله، كأنه قال: أمّن خلق السموات والأرض خير أم ما تشركون؟ فإن قلت: أي نكتة في نقل الإخبار عن الغيبة إلى التكلم عن ذاته في قوله فَأَنْبَتْنَا؟ قلت: تأكيد معنى اختصاص الفعل بذاته، والإيذان بأنّ إنبات الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والروائح والأشكال مع حسنها وبهجتها بماء واحد. لا يقدر عليه إلا هو وحده. ألا ترى كيف رشح معنى الاختصاص بقوله: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} ومعنى الكينونة: الانبغاء. أراد أن تأتي ذلك محال من غيره، وكذلك قوله: {بَلْ هُمْ} بعد الخطاب: أبلغ في تخطئة رأيهم. والحديقة: البستان عليه حائط: من الإحداق وهو الإحاطة.
وقيل (ذات)؛ لأنّ المعنى: جماعة حدائق ذات بهجة، كما يقال: النساء ذهبت. والبهجة: الحسن، لأنّ الناظر يبتهج به {أءلاه مَّعَ الله} أغيره يقرن به ويجعل شريكاً له. وقرئ: {أإلها مع الله}، بمعنى: أتدعون، أو أتشركون. ولك أن تحقق الهمزتين وتوسط بينهما مدّة، وتخرج الثانية بين بين {يَعْدِلُونَ} به غيره أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد.

.تفسير الآية رقم (61):

{أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)}
{أَمَّن جَعَلَ} وما بعده بدل من (أمن خلق) فكان حكمهما حكمه {قَرَاراً} دحاها وسوّاها للاستقرار عليها {حَاجِزاً} كقوله: برزخاً.

.تفسير الآية رقم (62):

{أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)}
الضرورة: الحالة المحوجة إلى اللجإ. والإضرار: افتعال منها. يقال: اضطرّه إلى كذا، والفاعل والمفعول: مضطر. والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجإ والتضرع إلى الله.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هو المجهود.
وعن السدّي: الذي لا حول له ولا قوة. وقيل: المذنب إذا استغفر.
فإن قلت: قد عم المضطرين بقوله: {يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} وكم من مضطرّ يدعوه فلا يجاب؟ قلت؛ الإجابة موقوفة على أن يكون المدعوّ به مصلحة، ولهذا لا يحسن دعاء العبد إلا شارطاً فيه المصلحة. وأما المضطر فمتناول للجنس مطلقاً، يصلح لكله ولبعضه، فلا طريق إلى الجزم على أحدهما إلا بدليل، وقد قام الدليل على البعض وهو الذي أجابته مصلحة، فبطل التناول على العموم {خُلَفَآءَ الأرض} خلفاء فيها، وذلك توارثهم سكناها والتصرف فيها قرنا بعد قرن. أو أراد بالخلافة الملك والتسلط. وقرئ: {يذكرون} بالياء مع الإدغام. وبالتاء مع الإدغام والحذف. وما مزيدة، أي: يذكرون تذاكراً قليلاً. والمعنى: نفي التذكر، والقلة تستعمل في معنى النفي.

.تفسير الآية رقم (63):

{أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)}
{يَهْدِيكُمْ} بالنجوم في السماء، والعلامات في الأرض: إذا جنّ الليل عليكم مسافرين في البر والبحر.

.تفسير الآية رقم (64):

{أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)}
فإن قلت: كيف قيل لهم: {أَمَّن يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} وهم منكرون للإعادة؟ قلت: قد أزيحت علتهم بالتمكين من المعرفة والإقرار، فلم يبق لهم عذر في الإنكار {مّنَ السمآء} الماء {و} من {الأرض} النبات {إِن كُنتُمْ صادقين} أنّ مع الله إلهاً، فأين دليلكم عليه؟

.تفسير الآية رقم (65):

{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)}
فإن قلت: لم رفع اسم الله، والله يتعالى أن يكون ممن في السموات والأرض؟ قلت: جاء على لغة بني تميم، حيث يقولون: ما في الدار أحد إلا حمار، يريدون: ما فيها إلا حمار، كأن أحداً لم يذكر. ومنه قوله:
عَشِيَّةَ مَا تُغنِي الرِّماحُ مَكَانَهَا ** وَلاَ النَّبْلُ إلاَّ الْمَشْرَفِيُّ الْمُصَمّمُ

وقولهم: ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه.
فإن قلت: ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي؟ قلت: دعت إليه نكتة سَرية. حيث أخرج المستثنى مخرج قوله: إلا اليعافير، بعد قوله: ليس بها أنيس، ليؤول المعنى إلى قولك: إن كان الله ممن في السموات والأرض، فهم يعلمون الغيب، يعني: أنّ علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم، كما أنّ معنى ما في البيت: إن كانت اليعافير أنيساً ففيها أنيس، بتاً للقول بخلوّها عن الأنيس.
فإن قلت: هلا زعمت أنّ الله ممن في السموات والأرض، كما يقول المتكلمون: الله في كل مكان، على معنى أنّ علمه في الأماكن كلها، فكأن ذاته فيها حتى لا تحمله على مذهب بني تميم؟ قلت: يأبى ذلك أن كونه في السموات والأرض مجاز، وكونهم فيهن حقيقة، وإرادة المتكلم بعبارة واحدة حقيقة ومجازاً غير صحيحة، على أنّ قولك: من في السموات والأرض، وجمعك بينه وبينهم في إطلاق اسم واحد: فيه إيهام تسوية، والإيهامات مزالة عنه وعن صفاته تعالى. ألا ترى كيف قال صلى الله عليه وسلم لمن قال: ومن يعصهما فقد غوى: «بئس خطيب ا لقوم أنت» وعن عائشة رضي الله عنها: «من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية»، والله تعالى يقول: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله}.
وعن بعضهم: أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحداً؛ لئلا يأمن أحد من عبيده مكره. وقيل: نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة {أَيَّانَ} بمعنى متى، ولو سمي به: لكان فعالاً، من آن يئين ولا نصرف. وقرئ: {إيان} بكسر الهمزة.

.تفسير الآية رقم (66):

{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)}
وقرئ: {بل أدَّرك}، {بل ادَّراك}، {بل ادَّارك}، {بل تدارك}، {بل أأدرك} بهمزتين {بل آأدرك}، بألف بينهما. {بل أدرك}، بالتخفيف والنقل {بل ادّرك} بفتح اللام وتشديد الدال. وأصله: بل أدّرك؟ على الاستفهام {بلى أدرك}، {بلى أأدرك}، {أم تدارك}، {أم أدرك} فهذه ثنتا عشرة قراءة: وأدّارك: أصله تدارك، فأدغمت التاء في الدال. وادّرك: افتعل. ومعنى أدرك علمهم: انتهى وتكامل. وادّارك: تتابع واستحكم. وهو على وجهين، أحدهما: أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيه، قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته، وهم شاكون جاهلون، وهو قوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ}: يريد المشركين ممن في السموات والأرض؛ لأنهم لما كانوا في جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع، كما يقال: بنو فلان فعلوا كذا وإنما فعله ناس منهم.
فإن قلت: إن الآية سيقت لاختصاص الله بعلم الغيب، وأن العباد لا علم لهم بشيء منه وأن وقت بعثهم ونشورهم من جملة الغيب وهم لا يشعرون به، فكيف لاءم هذا المعنى وصف المشركين بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة؟ قلت: لما ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب، ولا يشعرون بالبعث الكائن ووقته الذي يكون فيه، وكان هذا بياناً لعجزهم ووصفاً لقصور علمهم: وصل به أن عندهم عجزا أبلغ منه، وهو أنهم يقولون للكائن الذي لابد أن يكون- وهو وقت جزاء أعمالهم- لا يكون، مع أن عندهم أسباب معرفة كونه واستحكام العلم به. والوجه الثاني: أن وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكم بهم، كما تقول لأجهل الناس: ما أعلمك!على سبيل الهزؤ، وذلك حيث شكوا وعموا عن إثباته الذي الطريق إلى علمه مسلوك، فضلاً أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته: وفي: أدرك علمهم، وادارك علمهم: وجه آخر، وهو أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفنى، من قولك: أدركت الثمرة؛ لأن تلك غايتها التي عندها تعدم: وقد فسره الحسن رضي الله عنه باضمحل علمهم وتدارك، من تدارك بنو فلان: إذا تتابعوا في الهلاك فإن قلت، فما وجه قراءة من قرأ: بل أأدرك على الاستفهام؟ قلت: هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك من قرأ: أم أدرك. وأم تدارك؛ لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة.
فإن قلت: فمن قرأ: بلى أدرك، وبلى أأدرك؟ قلت: لما جاء ببلى، بعد قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ} كان معناه: بلى يشعرون، ثم فسر الشعور بقوله: أدرك علمهم في الآخرة على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم، فكأنه قال: شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون كونها، فيرجع إلى نفي الشعور على أبلغ ما يكون.
وأما من قرأ: بلى أأدرك؟ على الاستفهام فمعناه: بلى يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها؛ لأنّ العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن {فِى الأخرة} في شأن الآخرة ومعناه.
فإن قلت: هذه الاضرابات الثلاث ما معناها؟ قلت: ما هي إلا تنزيل لأحوالهم: وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه والإزالة مستطاعة. ألا ترى أن من لم يسمع اختلاف المذاهب وتضليل أربابها بعضهم لبعض: كان أمره أهون ممن سمع بها وهو جاثم لا يشخص به طلب التمييز بين الحق والباطل، ثم بما هو أسوأ حالاً وهو العمى، وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه وفرجه، لا يخطر بباله حقاً ولا باطلاً. ولا يفكر في عاقبة. وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه فلذلك عدّاه بمن دون عن؛ لأنّ الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون.